السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
الله أسأل أن يكون الكِرام بكل خير وعافية ..
يُروى أن الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى رأى غُلامًا أمامه حفرة ، كاد أن يقع فيها فقال له : إياك يا غُلام أن تسقط فقال الغُلام : بل إياك أنت يا إمام أن تسقط ، فإن أنا سقطت , سقطت وحدي ، ولكن إن أنت سقطتَ سقطَ العالَم معك !!
وبغض النظر عن ذكاء هذا الغُلام وفطنته , وبغض النظر عن ( البَون ) الشاسع والإختلاف الكبير بين نموذج هذا الغلام , وأطفال اليوم , إلا أنك تتعجب من صدق كلام هذا الغُلام , وخاصة في عصرنا , فكم من إمام سقط وأسقط خلق كثير معه في هوة سحيقة ؟!
كم من إمام قال بما لا يعلم ؟ أو قال بما يخالف ( صحيح ) معتقده , كل ذلك لأن الأوامر آتية إليه من ( فوق ) وهو بالطبع من الذين يخشون الناس التي ( فوق ) كخشية الله أو ربما أشد خشية , فيزيغ عن الحق , ويكتم الصدق ويُظهر الباطل , مؤثرًا منهج السلامة على سلامة المنهج !! فيهوي في الحفرة , ويهوي معه من يثقون في عِلمه ومكانته ..
الكارثة التي فطن الغُلام لها , هي مكانة ( أبو حنيفة ) رحمه الله بين الناس , تلك المكانة التي تزداد خطورتها بإزدياد عِلمه وذيوع صيته في أرجاء المعمورة ..
وللأسف قد تجد أئمة لا يدركون خطورة مواقعهم وأماكنهم , فيتسرعون في إصدار آراء , لو دققوا فيها قليلًا لوجدوا أن معظمها غير صحيح ..
وقد تجد منهم من يُفضل مكانته الدنيوية عند الناس على مكانته الدينية , فيصدر الفتاوى كحاطب ليل , وطبيعي أن تصدر فتاواه مسايرة للتيار الشعبي , ويُحجم عن قول الرأي الأصح , ويدعي أن هذا الأمر فيه خلاف ( مُعتبر ) , حتى تزداد مكانته وشعبيته ...
يُروى أن سعيد بن المُسيب , طُلب منه أن يُبايع الوليد وسليمان إبني عبد الملك , فقال لا أبايع إثنين ما إختلف الليل والنهار , فقالوا له إدخل من باب وأخرج من الباب الآخر قال لا والله لا يقتدي بي أحد من الناس !!
وكانت عاقبته أن تم جلده مئة جلدة وألبس المُسوح ..
التابعي الجليل ( سعيد بن المُسيب ) رفض أن يفعل شئ يراه خطأ , فحاولوا أن يثنوه عن رأيه بتبسيط الأمور له , أدخل وأخرج , فينتبه ( سعيد ) رحمه الله لخطورة مكانته وسط الناس , ولأنه إمام فسيأتم الناس بفعلته , لأنه صاحب العِلم , فيرفض الفكرة ويعلن بكل صراحة أنه لا يريد أن يسقط في الحفرة حتى لا يسقط معه الآخرون والعوام , فقال كلمته القاطعة ( لا والله لا يقتدي بي أحد من الناس ) , وطبيعي أن تكون عاقبته هي الجلد والتقليل من شأنه ..
اليوم , وما أدراك ما اليوم !!
ترى الإمام يسلك مسالك عجيبة وغريبة , وفي ظني للأسف أنه لو طُلب من أحدهم أن يُبايع ( عشرة ) وليس ( إثنين ) فلن يتردد , وفي ظني أيضـًا أنه سيأتي بما يحلل ذلك ويصبغه بالصِبغة الشرعية , بل والأعجب أنك قد تجده هو من يذهب إليهم ويشير عليهم بعمل ذلك !!
ضاعت الأمة ....... عندما ضاعت الأئمة !!
فالإمام أو العالِم , هو الشخص الوحيد المفترض أنه لا يخشى إلا الله , الناس كلها قد تخشى فوات الرزق , وقد تخشى ضياع المصلحة , وقد تخشى العذاب والهوان , فتصمت عن قول الحق , إلا الإمام , فهو وريث الأنبياء , فهل رأيتم من قبل نبي ( منافق ) ؟ أو ( مساير ) للتيار ؟
هل سمعتم عن نبي عندما سُئل عن الحق , كتمه , وإستبدل الذي هو أدني بالذي هو خير , فكان هلاك قومه على يديه ؟!
هل سمعتم عن نبي قال لملك كافر , أنت كافر , فلما سُجن وعُذب بسبب مقولته , قال في كفرك شك ؟!
فمن أين أتى ورثة الأنبياء , بتلك القبائح والنواقص ؟!!
ومنذ متى كانت الدنيا عندهم لها قيمة ؟!
نموذج آخر , أختم به موضوعي , وهو نموذج إمام أهل السُنة والجماعة ( أحمد بن حنبل ) رحمه الله ..
تعرض للتعذيب والتنكيل , وكانت محنته مع الخليفة المأمون والمعتزلة بسبب قولهم الفاسد ( بخلق القرآن ) مِحنة رهيبة ..
وتأملوا معي أيها الكِرام هذا الموقف ..
يُروى أن أبو جعفر الأنباري ( فقيه ينتسب للمذهب الحنفي , عُرف عنه الفصاحة والبيان , وعلى ما أذكر كان يتولى القضاء بمدينة المنصور ) عندما علم بأن أحمد بن حنبل قد حُمل إلى المأمون , عبر الفرات إليه فوجده في الخان , فقال له أحمد بن حنبل , يا أبا جعفر قد ( تعني ) - أي ( أتعبت نفسك وأرهقتها ) - فقال له أبو جعفر ليس في هذا عناء , ثم أتبع قائلًا يا هذا ( يقصد الإمام أحمد ) أنت اليوم ( رأس ) ، والناس يقتدون بك ، فو الله إن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن بإجابتك خلق من خلق الله كثير , وإن لم تُجِب ليمتنعن خلق من الناس كثير ، ومع هذا فإن الرجل ـ ( يقصد المأمون ) ـ إن لم يقتلك ، فإنك تموت ، ولا بد من الموت ، فاتَّقِ الله ، ولا تجبهم إلى شيء ، فجعل أحمد يبكي ، وهو يقول : ما شاء الله ، ما شاء الله !!
هل تأملتم تلك الدرر ؟!
أبو جعفر الأنباري , لم يقل له يا إمام ساير ( الموجة ) والله غفور رحيم , وإنج بنفسك من الهلاك , و ( كُل عيش ) أنت عندك أولاد , ويا أخي أنت في كرب وعليك أن تتخلص منه , ولا تلقي بيدك إلى التهلكة !!
أبو جعفر لم يجامل الإمام أحمد على حساب الحق , ولم يطلب من الإمام أحمد أن يكتم الحق في سبيل بقاء الإمام أحمد , وإنما نبهه إلى كونه ( رأس ) أي أنه إمام والناس ستتبع ما يقول , أبو جعفر ألقى الضوء على خطورة مكانة الإمام أحمد , ثم أتبع بقوله ( ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك ، فإنك تموت ، ولا بد من الموت !! ) ..
تلك الحقيقة الغائبة , أو التي يتناساها كثير منا ,وهي كوننا سنموت , المهم على ماذا ستموت ؟!
هل ستنافق وتنفذ أوامر الناس التي ( فوق ) على حساب الدين ؟! أم أنك ستكون مثل الإمام أحمد وسعيد بن المسيب وغيرهم الكثير من القِمم والشوامخ الذين لولا فضل الله ثم فضلهم وعِظم دورهم لهُدم الإسلام حجرًا حجرًًا ( والعجيب أنك قد تجد من رويبضة العصر الحديث من يتشدقون بأن هؤلاء القمم علماء وهم علماء أيضـًا !! وسبحان الله )
أبو جعفر نبه الإمام أحمد , وذكره بأنه سيموت , سواء أقتله المأمون أم قتله غيره أو مات طبيعيًا , المهم أن يكون صلدًا في وجه الباطل , المهم أن يقف ويقول كلمة الحق لأنه الإمام !!
ثم يختم أبو جعفر بقوله ( فاتَّقِ الله ، ولا تجبهم إلى شيء ) ..
ويا لها من نصيحة طيبة قوية !!
عليك بتقوى الله , خاف من الله , لا تتكلم إلا لله , ولا تصمت لو رأيت الحق يضيع ..
يا إمام إتقِ الله , ولا تنفذ ما طلبوه منك , لأنك إمام !!
وقد يصدر الإمام فتوى معينة , وتكون فتواه سريعة وخاطئة , وللأسف يستكبر عن الرجوع فيها وتبيان خطأها !!
فتجده يدافع عن قوله الباطل , ويبحث في الكتب عما يدعم رأيه , وللأسف لا يستمع للناصحين ولا يلقي بالًا لمن يريد أن يفهمه خطورة مكانته وخطورة ما يصدر منه , فمثل هذا يقع في الحفرة ويقع معه خلق كثير من خلق الله ..
وقد تجد الإمام يضيع قومه , ويوردهم المهالك , لأنه ( خجل ) أن يقول عندما يُسأل عن مسألة , لا أعرف , أولم يدرك أن من قال أنا أعرف كل شئ فهو لا يعرف شيئًا ؟!!
فيبدأ في التخمين , وإلقاء الفتاوى جزافـًا دون بصيرة وعلم , فيسير الناس على هدى فتواه الضالة , فيضيعوا ويسقطوا في الحفرة ..
ومازلت مع الإمام ( أحمد بن حنبل ) رحمه الله تعالى , وتأملوا معي تلك الحادثة ..
يُروى أن وفد من المغرب قد زار الإمام ومعهم ثلاثين سؤالاً ، طرحوها عليه فأجاب عن سبعة عشر سؤالاً ، والباقي قال لهم : لا أدري ، فقالوا : هل من المعقول أنّ الإمام أحمد لا يدري ؟ قال لهم : قولوا لمن أرسلكم : إن الإمام أحمد بن حنبل لا يعلم !!
هكذا , بكل بساطة ؟!
نعم , لأنه يدرك أن هذا الدين ليس فيه مجالًا للتخمين واللعب والظنون ( وحبة فوق وحبة تحت ) !!
يدرك مكانته جيدًا , ويدرك أنه ( رأس ) لذلك فهو حريص في أقواله وأرائه , لأنه يعلم , أنه لو سقط في الحفرة , فسيتبعه خلق كثير لأنه الإمام !!
فكم من رأس ضاعت , وأضاعت معها الأمم والأقوام ؟!
ولعل السؤال يثور : لماذا نكتب المواضيع عن الأئمة ولا نكتبها عن غيرهم مثلا ؟
والإجابة بكل بساطة , أن خطأ الإمام قد يدمر الأمة , فقد يفتي الإمام مثلًا بجواز الهجوم على دولة مسلمة أخرى فتتفرق الأمة على يديه , خطأ الإمام قد يجعلك تدخل النار ( إذا أصررت على إتباع خطأه مع علمك بكونه خطأ ) ..
كما أسلفت ضاعت الأمة ...... عندما ضاعت الأئمة ..
فالله أسأل أن يخرج من بين ظهورنا من لا يخافون في الله لومة لائم , ولا يسكتون للحق حسًا , ولا يفضلون ( مسايرة ) الموجه على حساب الحق وأهله ..
اللهم آمين ..
ودمتم جميعًا بكل خير وسلام ..
وطبعا أحب أقول أنه ليس كل الأئمة بهذا الحال وآسفة للإطالة