كان عصر الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه مليئاً بالفتوحات والرخاء وسعة العيش, وهو الأمر الذي أثار حنق أعداء الإسلام فأخذوا بإثارة الشبهات على عثمان, وتأليب الأعراب والغوغاء عليه, حتى انتهت هذه الحملة المريبة باستشهاد خليفة المسلمين رضي الله عنه.
واللافت في هذه الحملة أنها كانت منظمة تنظيماً دقيقا كما سنرى, وكان وراءها كمّ كبير من التخطيط والكيد وأتباع الوسائل الغير مشروعة من أجل شق صف المسلمين وتحطيم إنجازاتهم, وساعدهم في ذلك ما كان يتحلى به عثمان رضي الله عنه من تسامح وصبر وحلم, وعفو عند المقدرة.
وبعد هذا العصر الزاهر حدثت الفتنة في أواخر عهده الفتنة والتي أدت إلى استشهاده
ويرجع الشيخ عثمان الخميس في كتابه (حقبة من التاريخ ص42) أسباب الفتنة إلى:
1-اليهودي عبد الله بن سبأ. وهو الذي تولى كبر الفتنة.
2-الرخاء الذي أصاب الأمة زمن عثمان مما أورث البطر وعدم القبول وعدم الشكر.
3-الاختلاف بين طبع عثمان وطبع عمر الذي سبقه, فكان عمر شديداً, وكان عثمان حليماً غير أنه لم يكن ضعيفاً كما يتوهم, لذلك قال عبد الله بن عمر: والله لقد نقموا على عثمان أشياء لو فعلها عمر ما تكلم منهم أحد.
4-استثقال بعض القبائل لرئاسة قريش, خاصة تلك التي ارتدت عن الإسلام وعادت بقوة السيف.
وأما عبد الله بن سبأ فهو يهودي من اليمن يعرف بـ "ابن السوداء" أظهر الإسلام ثم انتهج التشيع لعلي وتنقل في بلدان المسلمين يريد إضلالهم, وهو أول من وضع مبدأ الرجعة, وأنّ محمداً r أحق بالرجوع من عيسى عليه السلام, وهو أول من قال بالوصية وأن لكل نبي وصيّاً, وقال: علي وصي محمد, ومحمد خاتم الأنبياء, وعلي خاتم الأوصياء.
وإليه تنسب فرقة السبئية الذين قالوا بألوهية علي, وقد أظهر بعض العقائد اليهودية كالقول بالرجعة والوصي وأن الإمامة تكون في بيت واحد, كما أنه استخدم الأعراب فأخذ يشيع عندهم الأكاذيب مدّعياً أن عثمان فعل كذا وكذا, وكتب ابن سبأ كتباً مزورة
فيها الإنكار على عثمان والتذمر من سياسته.
واستهدف ابن سبأ وأنصاره الولاة الصالحين, وصاروا يختلقون التهم لهم, بينما نصّبوا أنفسهم قائمين على مصالح الناس آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر, ونجحوا بعد عمل دؤوب من المكر والكذب والخداع أن يشكلوا ما يشبه الرأي العام الساخط على عثمان وعلى ولاته, وسار هؤلاء السبئية ومن معهم من الخوارج والغوغاء والأعراب من مصر والبصرة والكوفة إلى مدينة رسول الله r يريدون قتل خليفة المسلمين عثمان, وكان لهم ما أرادوا, فقد تمكنوا في ذي الحجة من السنة الخامسة والثلاثين للهجرة من قتله وهو شيخ كبير في الثانية والثمانين من عمره وكان في تلك اللحظة يقرأ القرآن رضي الله عنه.
وكان عثمان رضي الله عنه حريصاً على ألا تراق دماء المسلمين من أجله, وكان يطلب من الصحابة ألا يواجهوا هؤلاء المفسدين, وكان يصرفهم عن داره المحاصرة من قبل هؤلاء الغوغاء الذين استغلوا ذهاب الصحابة والمسلمين إلى الحج والأمصار.
واختلف المؤرخون في عدد هؤلاء المفسدين, فمنهم من قال كان عددهم ألفين, وقيل من مصر ألفان ومن الكوفة ألفان ومن البصرة ألفان. وبرغم الاختلاف في العدد, إلا أنهم في الراجح لا يقلون عن ألفين, ولم يكن عدد الصحابة المتواجدين آنذاك في المدينة يساوي عددهم, إضافة إلى أنهم لم يتخيلوا أن الأمر يصل بهؤلاء إلى قتل خليفة المسلمين, ولعلّ هذا ما يفسر عجز الصحابة رضي الله عنهم عن حماية الخليفة رغم أنهم بذلوا جهدهم, إضافة إلى نهي عثمان للصحابة بالقتال رغبة منه في حقن دماء المسلمين ورحمة بهم, مع حرصه على عدم إجابة المفسدين على ما طلبوه من أن يترك الخلافة, وان ينزع القميص الذي قمصه الله إياه.
وفي هذه المرحلة لم يكن قد اخترع ابن السوداء فكرة التشيع التي نشرها بعد أن آلت الأمور لعلي بن أبي طالب وكان يظن أن تنتهي دولة الإسلام بقتل الخليفة, فلما فشل بدأ في بدعة جديدة وهي بدعة التشيع لعلي.
ولقد أثار هؤلاء الغوغاء والمفسدون الناس ضد عثمان وولاته مستغلين بعض سياسات ومواقف عثمان, وجعلوها مادّة للخلاف, ونقموا عليه أشياء بعضها مكذوبة, وبعضها حسنات له جعلوها سيئات, وبعضها أخطاء مغفورة, وغير ذلك, وأهم هذه الأمور هي:
1-أنه ضرب عبد الله بن مسعود ومنعه عطاءه, وضرب عمار وفتق أمعاءه. يقول الإمام ابن العربي في العواصم من القواصم (ص49) عن هذه القضية أنها زور وإفك, ولو أنه فتق أمعاء عمار لما عاش أبداً.
2-نفى الصحابي أبا ذر الغفاري إلى الربذة وهي منطقة بينها وبين المدينة ثلاثة أميال, والصحيح أن أبا ذر هو الذي اختار الذهاب إلى هناك والبعد عن الناس عندما وجد أن العيش كما يريد أمر صعب, ووافقه عثمان, وقد كان أبو ذر رضي الله عنه ينكر على الناس الاحتفاظ بأموالهم والعيش في رخاء, وكان يعتقد أنه لا يجوز للمسلم أن يحتفظ بمال زائد عن حاجته حتى لو أخرج زكاته, فلمّا اجتمع بعثمان في المدينة نصحه عثمان بالعزلة إذ أنه لا يمكن إجبار الناس على حياة التقشف مثل أبي ذر, وعندما ذهب أبو ذر إلى هناك أعطاه عثمان إبلاً ومملوكين, وكان أبو ذر رضي الله عنه يتعاهد المدينة.
3-أنه كان يولّي أقرباءه, وهذا أمر يحتاج للوقوف عنده طويلاً, فقد كان لعثمان 18 والياً, خمسة منهم من أقاربه هم معاوية بن أبي سفيان وعبد الله بن سعد بن أبي السرح والوليد بن عقبة وسعيد بن العاص وعبد الله بن عامر.
ولم يكن هؤلاء الخمسة ولاة في وقت واحد, فقد ولّى الوليد بن عقبة ثم عزله, وولّى مكانه سعيد بن العاص, وأيضاً لم يُقتل عثمان إلا وقد عزل أيضاً سعيد بن العاص, فإذاً عندما قتل عثمان لم يكن من أقاربه من بني أمية إلا ثلاثة من الولاة هم معاوية وابن أبي السرح وعبد الله بن عامر.
والأهم من ذلك أن نذكر أن هؤلاء الولاة كانوا من أهل الكفاءة والتقوى, لا سيّما وأن النبي r كان يولي بني أمية أكثر من غيرهم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (منهاج السنة 6/192): لا تعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمال لرسول الله r أكثر من بني أمية لأنهم كانوا كثيرين وفيهم شرف وسؤدد.
وكان عثمان رضي الله عنه يرى أنهم يستحقون الولاية, وكذلك كانوا, فإن معاوية كان من خير الولاة, وكان أهل الشام يحبونه, كما أن معاوية كان قد ولاه عمر بن الخطاب ولاية الشام, والذي فعله عثمان هو أنه ثبته على الشام وزاده ولايات أخرى.
وعبد الله بن سعد بن أبي السرح كان من أصحاب رسول الله r ثم ارتد عن الدين, لكنه تاب ورجع وبايع النبي r فبايعه, وهو الذي فتح إفريقية. يقول عنه الإمام الذّهبي: (لم يتعدّ ولا فعل ما ينقم عليه, وكان أحد عقلاء الرجال وأجودهم).
وسعيد بن العاص كان من خيار أصحاب رسول الله r حتى قال الذهبي عنه في (سير أعلام النبلاء 3/445), كان أميراً شريفاً جواداً ممدحاً حليماً وقوراً ذا حزم وعقل يصلح للخلافة.
وعبد الله بن عامر بن كريز هو الذي فتح بلاد كسرى وخراسان, وانتهت دولة فارس في زمن عثمان على يديه, وفتح سجستان وكرمان وغيرهما من البلاد وقال عنه الذهبي في (سير أعلام النبلاء 3/21) كان من كبار أمراء العرب وشجعانهم وأجوادهم.
والوليد بن عقبة كان صاحب فتوحات كثيرة, ونقم عليه الناس شيئين:
الأول: أنه نزل فيه قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) سورة الحجرات الآية.
والآخر: أنه صلّى بالناس الفجر ذات يوم وهو سكران.
وأما الأمر الأول فكان بسبب أنه قد أرسله النبي r ليجبي صدقات بني المصطلق, فلما ذهب إليهم وأخبرهم قد قدموا عليه فظن أنهم قادمون لقتاله, فعاد وأخبر النبي بذلك, فهمّ النبي r بقتالهم, إلى أن جاء الأمر إلى النبي r بالتثبيت والتبين, وقال بنو المصطلق إنا لم نأت لنقاتل, وإنما جئنا بصدقاتنا لما تأخر علينا رسول رسول الله r.
وأما صلاته وهو سكران, فقد جاء شاهدان إلى عثمان يشهدان بأن الوليد شرب الخمر, فما كان من عثمان إلا أن جلده ثم عزله عن الولاية, رغم أن بعض العلماء يشكك في شهادة الشاهدين, وهذا العمل يحسب لعثمان رضي الله عنه لا عليه لإنه لم يحاب قريبه, بل جلده وعزله.
4-أحرق المصاحف وجمع الناس على مصحف واحد, وهذا من مناقبه رضي الله عنه, فإنه أكمل ما كان قد بدأ به المسلمون في عهد أبي بكر من جمع القرآن في كتاب واحد بعد أن استشهد الكثير من الصحابة من حفظة القرآن في الفتوحات وحروب الردّة, وبعد أن رأى الاختلاف في القرآن فجمع عثمان الناس على قراءة واحدة.
والمصاحف التي أحرقها فيها أشياء من منسوخ التلاوة, وقد أبقاه بعض الصحابة, وترتيب السور على غير الترتيب الذي في العرضة الأخيرة التي عرضها جبريل على النبي r, وفي بعض المصاحف تفسيرات لبعض الصحابة, لذلك أمر عثمان بإحراق تلك المصاحف, وكتب المصحف الوحيد وفيه القراءات ولم يلغ القراءات الثابتة عن النبي r.
5-زاد في الحمى أي المحمية الخاصة لإبل الصدقة, حيث وضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه منطقة خاصة لا يرعى فيها إلا إبل الصدقة حتى تسمن ويستفيد منها الناس. فلما جاء عثمان وقد زادت الإبل, فوسّع الحمى.
6-أتمّ في السفر ولم يقصر الصلاة كما كان يفعل النبي r, إنما صلى أربعاً. والجواب على هذا أن القصر في السفر سنة مستحبة, فيكون عثمان قد فعل الجائز أو ترك الرخصة وفعل العزيمة.
ويرجح العلماء أن عثمان أتمّ الصلاة ولم يقصرها لأحد سببين:
أ-أنه تزوج في مكة, فكان يرى أنه في بلده في مكة, ولذلك أتمّ هناك.
ب-أنه خشي أن يفتن الأعراب ويرجعون إلى بلادهم فيقصرون الصلاة, فأتم حتى يبين لهم أن الأصل أربع ركعات.
7-لم يحضر بدراً وفرّ يوم أحد ولم يشهد بيعة الرضوان. أما فغيابه عن بدر فكان بإذن من النبي r بسبب مرض زوجته رقية, بنت النبي r, وبقي بجانبها يعتني بها, وقد قال له النبي r إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً و سهمه, وأعطاه النبي r من الغنائم.
وأما فراره يوم أحد, فقد غفر الله له ولغيره كما جاء في قوله تعالى (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور رحيم).
وأما تغيبه عن بيعة الرضوان, فإن هذه البيعة ما قامت إلا انتقاماً لعثمان عندما أشيع أن قريش قتلته لمّا ذهب إليها موفداً من قبل النبي r ليخبرها أن رسول الله r جاء معتمراً إلى مكة, ولم يأت غازياً.
8-زاد الاذان الثاني يوم الجمعة, ولم يكن هذا في زمن النبي r وأبي بكر وعمر, وقد فعل عثمان هذا بسبب اتساع المدينة وانشغال الناس, وكان يرسل مؤذنه إلى السوق ليؤذن هناك ثم يؤذن للأذان الثاني في المسجد في موعده, وقد قاس عثمان الأذان الثاني في الجمعة على أذان الفجر.
والرسول r يقول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي).
الراصد
9-ردّ الحكم وقد نفاه الرسول r, وهذه القصة لم تثبت بسند صحيح, إضافة إلى أن الحكم كان من الطلقاء الذين أسلموا في فتح مكة, وهؤلاء لم يسكنوا المدينة وبقوا في مكة, فكيف ينفيه النبي r من المدينة وهو ليس من أهلها, كما أن النفي أقصاه عام, وعلى فرض صحة هذه القصة, وعلى فرض أن عثمان قد ردّه فإن هذا يكون بعد وفاة النبي r وبعد خلافة أبي بكر وعمر أي بعد أكثر من 15 عاماً.
10-لم يقتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب عندما قتل الهرمزان الذي كان مجوسياً وأسلم, حيث ظن عبيد الله أنه مشارك لأبي لؤلؤة المجوسي في قتل أبيه عمر, واعتبر الصحابة أن عبيد الله كان متأولاً كما هو حال أسامة بن زيد الذي قتل المشرك بعد أن قال لا إله إلا الله, واعتبر بعضهم أن الهرمزان كان متواطئاً مع أبي لؤلؤة.