الصف الاول

مشرف عدد الرسائل : 372 تاريخ التسجيل : 28/11/2009

فى احتفال بلاده بالذكرى العشرين لخروجه من السجن، جلس مانديلا مبتسماً فى الصف العاشر بين الحاضرين.. فقبل عشرين سنة، كان قد غادر المعتقل بعد أن قضى فيه ٢٧ سنة، وكان وقتها فى الحادية والسبعين من عمره، وهو الآن فى الحادية والتسعين، ويشعر بأنه أدى رسالته تجاه بلده، ويستطيع - الآن فقط - أن يتكئ، وأن ينام فى هدوء، وهو مستريح البال!
جلس الرجل فى الصف العاشر، وكانت كل العيون تتجه إليه، وكل الأيادى تشير فى اتجاهه، وكانت الكاميرات تلعلع من حوله، رغم أنه، وياللعجب، لم يكن يتصدر الجالسين فى الصف الأول، حيث يتركز الاهتمام الإعلامى كله فى العادة!!
كان قد اختار مكانه فى أثناء الاحتفال بعناية فيما يبدو، وكان يدرك جيداً أن الرجل هو الذى يصنع المكان، وليس المكان هو الذى يصنع الرجل، وأن تحويل المكان فيما بعد، إلى مكانة بين الناس، لا يأتى عبثاً، ولا ينشأ بالمصادفة، ولا تصنعه الظروف، ولكن تقيمه الإرادة!
وحين تولى مانديلا الحكم فى بلاده، فإنه خرج منه، عندما انتهت فترته، وكان فى إمكانه أن يجدد، وأن يبقى، وأن يقعد، وكان مواطنوه فى جنوب أفريقيا سوف يرحبون ببقائه لأن إنجازه فى اتجاه إنهاء سيطرة الأقلية البيضاء على الحكم، وعلى كل شىء فى البلد، كان يسمح له بذلك، وبما هو أكثر منه.. ولكنه رفض أن يبقى، ورفض تعديل الدستور من أجل بقائه فى السلطة، وأراد أن يكون قدوة، وأن يضرب المثل بنفسه هو، وليس بأحد غيره، وأن يقول إن البلاد التى يعيش فيها رؤساء سابقون، تظل بلاداً قوية، وتكون لها مكانة بين أمم الأرض، ويكون لها موطئ قدم على خريطة العالم!
وليست مصادفة، والحال كذلك، أن تكون جنوب أفريقيا، كدولة، واحدة من أقوى دول القارة، إن لم تكن أقواها على الإطلاق، وليست مصادفة أن تكون على ما هى عليه الآن، اقتصاداً، واستثماراً، واقتداراً فى كل ميدان!
ليست مصادفة لأن مانديلا، حين حكم البلد، جعل اهتمامه له بالإنسان، من حيث هو إنسان، وليس من حيث كونه أبيض أو أسود ولا أى تصنيف آخر.. لا.. لم يكن هذا فى ذهن مانديلا الرئيس أبداً، وإنما أدرك، بوضوح، أن الإنسان فى البلد - أى بلد - إذا كان قوياً، محترماً، مكرماً، حاصلاً على مقتضيات آدميته، فسوف يكون البلد كله بالتالى، متمتعاً بالصفات نفسها، لأن البلد ليس فى النهاية إلا حاصل جمع أفراده الذين يعيشون على أرضه، بحالتهم التى يعيشون عليها.. فإذا كانوا تعساء، على مستوى كل واحد بمفرده، كان الوطن بالضرورة تعيساً، وإذا كانوا بؤساء، كان البلد فى إجماله بائساً، وإذا كانوا مرفوعى الرأس، كان وطنهم على الحال نفسه.. وهكذا.. وهكذا!
لم يهتم مانديلا بالوطن، على حساب الإنسان فيه، ولا بالبلد على حساب البنى آدم على أرضه، وإنما راح يتوجه إلى الإنسان، مباشرة، ليعمل طول الوقت لحسابه، ولتكون المعادلة فى النهاية معتدلة، وليست مقلوبة، ويكون الوطن مسخراً من أجل الناس فيه، لا أن يكونوا هم، من خلال كل واحد فيهم، مسخرين فى سبيله، كما يتردد لدينا كثيراً، فيكتشف الناس عندنا فى النهاية، أنهم ليسوا مسخرين من أجل بلدهم، وإنما من أجل أشخاص فى البلد!
إننا نتمنى من أعماق قلوبنا، أن نجد مسؤولينا الكبار، وقد جلسوا فى الصف الثانى، وأفسحوا الطريق لآخرين، لا لشىء، إلا لأن مانديلا حين جلس فى الصف العاشر، كان قد نقل بلاده إلى الصف الأول!
بقلم سليمان جودة